فصل: تفسير الآيات رقم (1- 5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


الجزء الحادي والعشرون

سورة المزمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ‏(‏1‏)‏ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏2‏)‏ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ‏(‏3‏)‏ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

لما تقدم في آخر الجن من تعظيم الوحي وأن من تعظيمه حفظ المرسل به من جميع الآفات المفترة عن إبلاغه بما له سبحانه من إحاطة العلم والقدرة وندب نبيه الذي ارتقاه لرسالته والاطلاع على ما أراده من غيبه صلى الله عليه وسلم أول هذه إلى القيام بأعباء النبوة بالمناجاة بهذا الوحي في وقت الأنس والخلوة بالأحباب، والبسط والجلوة لمن دق الباب، للاعتلاء والمتاب، المهيئ لحمل أعباء الرسالة، والمقوي على أثقال المعالجة لأهل الضلالة، فقال معبراً بالأداة الصالحة للقرب والبعد المختصة بأنه لا يقال بعدها إلا الأمور التي هي في غاية العظمة، أشار إلى أنه صلى الله عليه وسلم يراد به غاية القرب بالأمور البعيدة عن تناول الخلق بكونها خوارق للعادات ونواقض للمألوفات المطردات، وأما التزمل فهو وإن كان من آلات ذلك إلا أنه من الأمور العادية، فهو دون ما يراد من التهيئة لذلك الاستعداد، وبالتزمل لكونه منافياً للقيام في الصلاة‏:‏ ‏{‏يا أيها المزمل *‏}‏ أي الذي أخفى شخصه وستر أمره وما أمرناه به- بما أشار إليه التزمل الذي مدلوله التلفف في الثوب على جميع البدن والاختفاء ولزوم مكان واحد، ولأنه يكون منطرحاً على الأرض كما قال صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد- «زملوهم بثيابهم ودمائهم» مع الإشارة إلى الإخفاء أيضاً بإدغام تاء التفعل، وربما أشار الإدغام إلى أن الستر بالثوب لم يعم جميع البدن، كما يأتي في المدثر على أن فيه مع ذلك إشارة إلى البشارة بالقوة على حمل أعباء ما يراد به، من قولهم‏:‏ زمل الشيء- إذا رفعه وحمله، والازدمال‏:‏ احتمال الشيء، وزملت الرجل على البعير وغيره- إذا حملته عليه، ومن زملت الدابة في عدوها- إذا نشطت، والزامل من حمر الوحش الذي كأنه يظلع من نشاطه، ورجل إزميل‏:‏ شديد، والزاملة‏:‏ بعير يستظهر به الرجل لحمل طعامه ومتاعه عليه، ويقال للرجل العالم بالأمر‏:‏ هو ابن زوملتها، وقال ابن عطاء‏:‏ يا أيها المخفي ما تظهره عليه من آثار الخصوصية‏!‏ هذا أوان كشفه، وقال عكرمة‏:‏ يا أيها الذي حمل هذا الأمر، وقال السدي‏:‏ أراد يا أيها النائم، وقال غيره‏:‏ كان هذا في ابتداء الوحي بالنبوة، والمدثر في ابتداء الوحي بالرسالة، ثم خوطب بعد ذلك بالنبي والرسول‏:‏ ‏{‏قم‏}‏ أي في خدمتنا بحمل أعباء نبوتنا والازدمال بالاجتهاد في الاحتمال، واترك التزمل فإنه مناف للقيام‏.‏

ولما كان الاجتهاد في الخدمة دالاًّ على غاية المحبة، وكانت النية خيراً من العمل، وكان الإنسان مجبولاً على الضعف، وكان سبحانه لطيفاً بهذه الأمة تشريفاً لإمامها صلى الله عليه وسلم، رضى منا سبحانه بصدق التوجه إلى العمل وجعل أجورنا أكثر من أعمالنا، فجعل إحياء البعض إحياء للكل، فأطلق اسم الكل وأراد البعض فقال‏:‏ ‏{‏الليل‏}‏ أي الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزلنا عليك من كلامنا فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البر والبحر والسر والجهر، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده، وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة، وهي عمادها، فذكرها دال على ما عداها‏.‏

ولما كان للبدن حظ في الراحة قال مستثنياً من الليل‏:‏ ‏{‏إلا قليلاً *‏}‏ أي من كل ليلة، ونودي هذا النداءلأنه صلى الله عليه وسلم «لما جاءه الوحي بغار حراء رجع إلى خديجة زوجته رضي الله تعالى عنها يرجف فؤاده فقال‏:‏» زملوني زملوني‏!‏ لقد خشيت على نفسي «‏.‏ فسألته رضي الله عنها عن حاله، فلما قص عليها أمره- قال‏:‏» خشيت على نفسي «يعني أن يكون هذا مبادئ شعر أو كهانة، وكل ذلك من الشياطين وأن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس بملك، وكان صلى الله عليه وسلم يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة، فقالت له وكانت وزيرة صدق‏:‏» كلا والله‏!‏ لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق «ونحو هذا من المقال الذي يثبت، وفائدة التزمل أن الشجاع الكامل إذا دهمه أمر هو فوق قواه ففرق أمره فرجع إلى نفسه، وقصر بصره وبصيرته على حسه، اجتمعت قواه إليه فقويت جبلته الصالحة على تلك العوارض التخييلية فهزمتها فرجع إلى أمر الجبلة العلية، وزال ما عرض من العلة البدنية‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما كان ذكر إسلام الجن قد أحرز غاية انتهى مرماها وتم مقصدها ومبناها، وهي الإعلام باستجابة هؤلاء وحرمان من كان أولى بالاستجابة، وأقرب في ظاهر الأمر إلى الإنابة، بعد تقدم وعيدهم وشديد تهديدهم، صرف الكلام إلى أمره صلى الله عليه وسلم بما يلزمه من وظائف عبادته وما يلزمه في أذكاره من ليله ونهاره، مفتتحاً ذلك بأجمل مكالمة وألطف مخاطبة ‏{‏يا أيها المزمل‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 1‏]‏ وكان ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم كما ورد ‏{‏فلا تذهب نفسك عليهم حسرات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏ إلى آخره، وليحصل منه الاكتراث بعناد من قدم عناده وكثرة لججه، وأتبع ذلك بما يشهد لهذا الغرض ويعضده وهو قوله تعالى ‏{‏فاصبر صبراً جميلاً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 10- 11‏]‏ وهذا عين الوارد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تذهب نفسك عليهم حسرات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏ وفي قوله ‏{‏نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إن لدينا أنكالاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 12‏]‏ فذكر ما أعد لهم، وإذا تأملت هذه الآي وجدتها قاطعة بما قدمناه، وبان لك التحام ما ذكره، ثم رجع الكلام إلى التلطف به عليه الصلاة والسلام وبأصحابه- رضي الله عنهم أجمعين- وأجزل جزاءهم مع وقوع التقصير ممن يصح منه تعظيم المعبود الحق جل جلاله

‏{‏علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ ثم ختم السورة بالاستغفار من كل ما تقدم من عناد الجاحدين المقدم ذكرهم فيما قبل من السور إلى ما لا يفي العباد المستجيبون به مما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏علم أن لن تحصوه‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ انتهى‏.‏

ولما كان الليل اسماً لما بين غروب الشمس وطلوع الفجر، وكان قيامه في غاية المشقة، حمل سبحانه من ثقل ذلك، فقال مبيناً لمراده بما حط عليه الكلام بعد الاستثناء، ومبدلاً من جملة المستثنى والمستثنى منه‏:‏ ‏{‏نصفه‏}‏ أي الليل، فعلم أن المراد بالقليل المستثنى النصف، وسماه قليلاً بالنسبة إلى جميع الليل، وبالنسبة إلى النصف الذي وقع إحياؤه، لأن ما يلي بالعمل أكثر مما لا عمل فيه، ويجوز أن يكون «نصفه» بدلاً من الليل، فيكون كأنه قيل‏:‏ قم نصف الليل إلا قليلاً وهو السدس أو انقص منه إلى الربع، وجاءت العبارة هكذا لتفيد أن من قام ثلث الليل بل ربعه فما فوقه كان محيياً لليل كله‏.‏

ولما كانت الهمم مختلفة بالنسبة إلى الأشخاص وبالنسبة إلى الأوقات قال‏:‏ ‏{‏أو انقص منه‏}‏ أي هذا النصف الذي أمرت بقيامه، أو من النصف المستثنى منه القليل على الوجه الثاني وهو الثلث ‏{‏قليلاً *‏}‏ فلا تقمه حتى لو أحييت ثلث الليل على الوجه الأول أو ربعه على الوجه الثاني كنت محيياً له كله في فضل الله بالتضعيف ‏{‏أو زد عليه‏}‏ أي على النصف قليلاً كالسدس مثلاً، فيكون الذي تقومه الثلثين مثلاً، وعلى كل تقدير من هذه التقادير يصادف القيام- وهو لا يكون إلا بعد النوم‏:‏ الوقت الذي يباركه الله بالتجلي فيه فإنه صح أنه ينزل سبحانه عن أن يشبه ذاته شيئاً أو نزوله نزول غيره بل هو كناية عن فتح باب السماء الذي هو كناية عن وقت استجابة الدعاء- حين يبقى ثلث الليل- وفي رواية‏:‏ حين يبقى شطر الليل الآخر- إلى سماء الدنيا فيقول‏:‏ هل من سائل فأعطيه، هل من تائب فأتوب عليه، هل من كذا هل من كذا حتى يطلع الفجر‏.‏ وكان هذا القيام في أول الإسلام فرضاً عليهم على التخيير بين هذه المقادير الثلاثة فكانوا يشقون على أنفسهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، وكذا بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم، وكان هذا قبل فريضة الخمس، فنزل آخرها بالتخفيف بعد سنة

‏{‏علم أن لن تحصوه‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ الآيات، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة‏.‏

ولما أمر بالقيام وقدر وقته وعينه، أمر بهيئة التلاوة على وجه عام للنهار معلم بأن القيام بالصلاة التي روحها القرآن فقال‏:‏ ‏{‏ورتل القرآن‏}‏ أي اقرأه على تؤدة وبين حروفه بحيث يتمكن السامع من عدها وحتى يكون المتلو شبيهاً بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، فإن ذلك موجب لتدبره فتكشف له مهماته وينجلي عليه أسراره وخفياته، قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ولا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذ الشعر، ولكن قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة‏.‏ روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية، والآية ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏» ‏[‏المائدة‏:‏ 118‏]‏ ولما أعلم سبحانه بالترتيل أعلم بشرفه بالتأكيد بالمصدر فقال‏:‏ ‏{‏ترتيلاً *‏}‏‏.‏

ولما كان المراد منه صلى الله عليه وسلم الثبات للنبوة ومن أمته الثبات في الاقتداء به في العمل والأمر والنهي، وكان ذلك في غاية الصعوبة، وكان الإنسان عاجزاً إلا بإعانة مولاه، وكان العون النافع إنما يكون لمن صفت نفسه عن الأكدار وأشرقت بالأنوار، وكان ذلك إنما يكون بالاجتهاد في خدمته سبحانه، علل هذا الأمر بقوله مبيناً للقرآن الذي أمر بقراءته ما هو وما وصفه، معلماً أن التهجد يعد للنفس من القوى ما به يعالج المشقات، مؤكداً لأن الإتيان بما هو خارج عن جميع أشكال الكلام لا يكاد يصدق‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏سنلقي‏}‏ أي قريباً بوعد لا خلف فيه فتهيأ لذلك بما يحق له‏.‏

ولما كان المقام لبيان الصعوبة، عبر بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏عليك‏}‏ وأشار إلى اليسر مع ذلك إشارة إلى ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 17‏]‏ بالتعبير بما تدور مادته على اليسر والخفة فقال‏:‏ ‏{‏قولاً‏}‏ يعني القرآن ‏{‏ثقيلاً *‏}‏ أي لما فيه من التكاليف الشاقة من جهة حملها وتحميلها للمدعوين لأنها تضاد الطبع وتخالف النفس، ومن جهة رزانة لفظه لامتلائه بالمعاني مع جلالة معناه وتصاعده في خفاء فلا يفهمه المتأمل ويستخرج ما فيه من الجواهر إلا بمزيد فكر وتصفية سر وتجريد نظر، فهو ثقيل على الموافق من جميع هذه الوجوه وغيرها، وعلى المخالف من جهة أنه لا يقدر على رده ولا يتمكن من طعن فيه بوجه مع أنه ثقيل في الميزان وعند تلقيه وله وزن وخطر وقدر عظيم، روي في الصحيح‏:‏ «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الوحي يفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشاتي الشديد البرد» وكان- إذا أنزل عليه الوحي وهو راكب على ناقته وضعت جرانها فلا تكاد تتحرك حتى يسري عنه «قال القشيري‏:‏ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سورة الأنعام نزلت عليه جملة واحدة وهو راكب فبركت ناقته من ثقل القرآن وهيبته، وهو مع ثقله على الأركان خفيف على اللسان سهل التلاوة والحفظ على الإنسان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ‏(‏7‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏(‏8‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

ولما أفهم هذا أن التهجد في غاية العظمة، أكد ذلك حاثاً على عدم الرضى بدون الأفضل الأجمل الأكمل بقوله‏:‏ مؤكداً ليخف أمر القيام على النفس‏:‏ ‏{‏إن ناشئة الّيل‏}‏ أي ساعاته التي كل واحدة منها ناشئة والعبادة تنشأ فيه بغاية الخفة، من نشأ أي نهض من مضجعه بغاية النشاط لقوة الهمة ومضاء العزيمة التي جعلتها كأنها نشأت بنفسها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ما كان بعد العشاء فهو ناشئة، وما كان قبله فليس بناشئة، وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ الناشئة القيام بعد النوم، وقال الأزهري‏:‏ الناشئة القيام، مصدر جاء على فاعلة كالعافية بمعنى العفو‏.‏

ولما كان ذلك في غاية الصعوبة لشدة منافرته للطبع، زاد في التأكيد ترغيباً فيه فقال‏:‏ ‏{‏هي‏}‏ أي خاصة لما لها من المزايا ‏{‏أشد‏}‏ أي أثقل وأقوى وأمتن وأرصن ‏{‏وطأً‏}‏ أي كلفة ومشقة لما فيها نم ترك الراحة وفراق الألف والمحبوب، وأشد ثبات قدم- على أنه مصرد وطئ في قراءة الجماعة- بفتح ثم سكون، ومواطأة بين القلب واللسان في الحضور وفي التزام الدين بالإذعان والخضوع على أنه مصدر واطأ مثل قاتل على قراءة أبي عمرو وابن عامر بالكسر والمد وهي أبلغ لأن صيغة المفاعلة تكون بين اثنين يغالبان فيكون الفعل أقوى‏.‏

ولما كان التهجد يجمع القول والفعل، وبين ما في الفعل لأنه أشق، فكان بتقديم الترغيب بالمدحة أحق، أتبعه القول فقال‏:‏ ‏{‏وأقوم قيلاً *‏}‏ أي وأعظم سداداً من جهة القيل في فهمه ووقعه في القلوب بحضور القلب ورياقة الليل بهدوء الأصواء وتجلي الرب سبحانه وتعالى بحصول البركات، وأخلص من الرياء والقصود الدنيات‏.‏

ولما بين سبحانه من أول السورة إلى هنا ما به صلاح الدين الذي عصمه الأمر وبه صلاح الدارين، وأظهر ما للتهجد من الفضائل، فكان التقدير حتماً‏:‏ فواظب عليه لتناول هذه الثمرات، قال معلّلاً محققاً له مبيناً ما به صلاح الدنيا التي هي فيها المعاش، وصلاحها وسيلة إلى صلاح المقصود، وهو الدين وهو الذي ينبغي له لئلا يكون كلاًّ على الناس ليحصل من الرزق ما يعينه على دينه ويوسع به على عيال الله من غير ملل ولا ضجر ولا كسل ولا مبالغة، مؤكداً لما للنفس من الكسل عنه‏:‏ ‏{‏إن لك‏}‏ أي أيها المتهجد أو يا أكرم العباد إن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون آكد في إلزام الأمة به ‏{‏في النهار‏}‏ الذي هو محل السعي في مصالح الدنيا‏.‏

ولما كان الإنسان يهتم في سعيه لنفسه حتى يكون كأنه لشدة عزمه وسرعة حركته كالسابح فيما لا عائق له فيه قال‏:‏ ‏{‏سبحاً طويلاً *‏}‏ أي تقلباً ممتد الزمان، قال البغوي‏:‏ وأصل السبح سرعة الذهاب، وقال الرازي‏:‏ سهولة الحركة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فاجتهد في التهجد، عطف عليه قوله حاثاً على حضور الفكر‏:‏ ‏{‏واذكر اسم ربك‏}‏ أي المحسن إليك والموجد والمدبر لك بكل ما يكون ذكراً من اسم وصفة وثناء وخضوع وتسبيح وتحميد وصلاة وقراءة ودعاء وإقبال على علم شرعي وأدب مرعي ودم على ذلك، فإذا عظمت الاسم بالذكر فقد عظمت المسمى بالتوحيد والإخلاص، وذلك عون لك على مصالح الدارين، أما الآخرة فواضح، وأما الدنيا فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أعز الخلق عليه فاطمة ابنته رضي الله عنها لما سألته خادماً يقيها التعب إلى التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم‏.‏

ولما كان الذكر قد يكون مع التعلق بالغير، أعلم أن الذاكر في الحقيقة إنما هو المستغرق فيه سبحانه وبه يكون تمام العون فقال‏:‏ ‏{‏وتبتل‏}‏ أي اجتهد في قطع نفسك عن كل شاغل، والإخلاص في جميع أعمالها بالتدريج قليلاً قليلاً، منتهياً‏:‏ ‏{‏إليه‏}‏ ولا تزل على ذلك حتى يصير لك ذلك خلقاً فتكون نفسك كأنها منقطعة بغير قاطع ومقطعة تقطعياً كثيراً بكل قاطع، فيكون التقدير- بما أرشد إليه المصدر «تبتلاً» وبتلها ‏{‏تبتيلاً *‏}‏ فأعلم بالتأكيد بالمصدر المرشد إلى الجمع بين التفعل والتفعيل بشدة الاهتمام وصعوبة المقام، وهو من البتل وهو القطع، صدقة بتلة أي مقطوعة عن صاحبها، ولذلك قال زيد بن أسلم‏:‏ التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله تعالى، والبتول مريم عليها السلام لانقطاعها إلى الله تعالى، عن جميع خلقه، وكذا فاطمة الزهراء البتول أيضاً لانقطاعها عن قرين ومثيل ونظير، فالمراد بهذا هو المراد بكلمة التوحيد المقتضية للإقبال عليه والإعراض عن كل ما سواه، وذلك بملازمة الذكر وخلع الهوى، والآية من الاحتباك وهو ظاهر‏:‏ ذكر فعل التبتل دليلاً على حذف مصدره، وذكر مصدر بتل ديليلاً على حذف فعله‏.‏

ولما كان الواجب على كل أحد شكر المنعم، بين أنه سبحانه الذي أنعم يسكن الليل الذي أمر بالتهجد فيه ومنتشر النهار الذي أمر بالسبح فيه، فقال واصفاً الرب المأمور بذكره في قراءة ابن عامر ويعقوب والكوفيين غير حفص معظماً له بالقطع في قراءة الباقين بالرفع‏:‏ ‏{‏رب المشرق‏}‏ أي موجد محل الأنوار التي بها ينمحي هذا الليل الذي أنت قائم فيه ويضيء بها الصباح وعند الصباح يحمد القوم السرى بما أنالهم من الأنوار في مرائي قلوبهم وما زينها به من شهب المعاني كما أوجد لهم في آفاق أفلاكهم من شموس المعاني المثمرة ليدور الأنس في مواطن القدس، فلا يطلع كوكب في الموضع الذي هو ربه إلا بإذنه، وهو رب كل مكان، وما أحسن ما قال الإمام الرباني تقي الدين بن دقيق العيد‏:‏

كم ليلة فيك وصلنا السرى *** لا نعرف الغمض ولا نستريح

واختلف الأصحاب ماذا الذي *** يزيح من شكواهم أو يريح

فقيل تعريسهم ساعة *** وقلت بل ذكراك وهو الصحيح

ولما ذكر مطالع الأنوار، لأنها المقصود لما لها من جلي الإظهار، ووحد لأنه أوفق لمقصود السورة الذي هو محطة لانجماح المدلول عليه بالتزمل، أتبعه مقابله فقال‏:‏ ‏{‏والمغرب‏}‏ أي الذي يكون عنه الليل والذي هو محل السكن وموضع الخلوات ولذيذ المناجاة، فلا تغرب شمس ولا قمر ولا نجم إلا بتقديره سبحانه، وإذا كان رب ما فيه هذه الصنائع التي هي أبدع ما يكون كان رب ما دون ذلك‏.‏

لما علم بهذا أنه المختص بتدبير الكائنات، المتفرد بإيجاد الموجودات، كان أهلاً لأن يفرد بالعبادة وجميع التوجه فقال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏لا إله‏}‏ أي معبود بحق ‏{‏إلا هو‏}‏ أي ربك الذي دلت تربيته لك على مجامع العظمة وأنهى صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص‏.‏ ولما علم تفرده سبحانه كان الذي ينبغي لعباده أن لا يوجه أحد منهم شيئاً من رغبته لغيره فلذلك سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاتخذه‏}‏ أي خذه بجميع جهدك وذلك بإفرادك إياه بكونه تعالى ‏{‏وكيلاً *‏}‏ أي على كل من خالفك بأن تفوض جميع أمورك إليه فإنه يكفيكها كلها ويكلؤها غاية الكلاية فإنه المتفرد بالقدرة عليها، ولا شيء أصلاً في يد غيره، فلا تهتم بشيء أصلاً، وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل، فإن ذلك طمع فارغ بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه، ليكون متوكلاً في السبب لا من دون سبب، فإنه يكون حينئذ كمن يطلب الولد من غير زوجة، وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب، ولو لم يكن في إفراده بالوكالة إلا أنه يفارق الوكلاء بالعظمة والشرف والرفق من جميع الوجوه فإن وكيلك من الناس دونك وأنت تتوقع أن يكلمك كثيراً في مصالحك وربك أعظم العظماء وهو يأمرك أن تكلمه كثيراً في مصالحك وتسأله طويلاً ووكيلك من الناس- إذا حصّل مالك سألك الأجرة وهو سبحانه يوفر مالك ويعطيك الأجر، ووكيلك من الناس ينفق عليك من مالك وهو سبحانه يرزقك وينفق عليك من ماله، ومن تمسك بهذه الآية عاش حراً كريماً، ومات خالصاً شريفاً، ولقي الله تعالى عبداً صافياً مختاراً تقياً، ومن شرط الموحد أن يتوجه إلى الواحد ويقبل على الواحد ويبذل له نفسه عبودية ويأتمنه على نفسه ويفوض إليه أموره ويترك التدبير ويثق به ويركن إليه ويتذلل لربوبيته، ويتواضع لعظمته ويتزين ببهائه ويتخذه عدة لكل نائبة دنيا وآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 15‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ‏(‏10‏)‏ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ‏(‏11‏)‏ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ‏(‏12‏)‏ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏13‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ‏(‏14‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

ولما كانت الوكالة لا تكون إلا فيما يعجز، وكان الأمر بها مشيراً إلى أنه لا بد أن يكون عن هذا القول الثقيل خطوب طوال وزلازل وأهوال، قال‏:‏ ‏{‏واصبر‏}‏ وأشار إلى عظمة الصبر بتعديته بحرف الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏على ما‏}‏ وخفف الأمر بالإشارة إلى أنهم لا يصلون إلى غير الأذى بالقول، وعظمه باستمرارهم عليه فقال‏:‏ ‏{‏يقولون‏}‏ أي المخالفون المفهومون من الوكالة من مدافعتهم الحق بالباطل في حق الله وحقك‏.‏

ولما كانت مجانبة البغيض إلا عند الاضطرار مما يخفف من أذاه قال‏:‏ ‏{‏واهجرهم‏}‏ أي أعرض عنهم جهاراً دافعاً للهرج مهما أمكن ‏{‏هجراً جميلاً *‏}‏ بأن تعاشرهم بظاهرك وتباينهم بسرك وخاطرك، فلا تخالطهم إلا فيما أمرك الله به على ما حده لك من دعائهم إليه سبحانه ومن موافاتهم في أفراحهم وأحزانهم فتؤدي حقوقهم ولا تطالبهم بحقوقك لا تصريحاً ولا تلويحاً‏.‏

ولما كان في أمره هذا بما يفعل ما يشق جداً بما فيه من احتمال علوهم، أعلم بقرب فرجه بتهديدهم بأخذهم سريعاً فقال‏:‏ ‏{‏وذرني‏}‏ أي اتركني على أي حالة اتفقت مني في معاملتهم، وأظهر في موضع الإضمار تعليقاً للحكم بالوصف وتعميماً فقال‏:‏ ‏{‏والمكذبين‏}‏ أي العريقين في التكذيب فإني قادر على رحمتهم وتعذيبهم‏.‏

ولما ذكر وصفهم الذي استحقوا به العذاب، ذكر الحامل عليه تزهيداً فيه وصرفاً عن معاشرة أهله لئلا تكون المعاشرة فتنة فتكون حاملة على الاتصاف به وجارّة إلى حب الدنيا فقال‏:‏ ‏{‏أولي النعمة‏}‏ أي أصحاب التنعم بغضارة العيش والبهجة التي أفادتهموها النعمة- بالكسر وهي الإنعام وما ينعم به من الأموال والأولاد، والجاه الذي أفادته النعمة- بالضم وهي المسرة التي تقتضي الشكر وهم أكابر قريش وأغنياؤهم‏.‏

ولما كان العليم القدير إذا قال مثل هذا لولي من أوليائه عاجل عدوه، قال محققاً للمراد بما أمر به من الصبر من هذا في النعم الدنيوية بأن زمنها قصير‏:‏ ‏{‏ومهلهم‏}‏ أي اتركهم برفق وتأن وتدريج ولا تهتم بشأنهم‏.‏

ولا سره بوعيدهم الشديد بهذه العبارة التي مضمونها أن أخذهم بيده صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه يسأل في تأخيره لهم، زاد في البشارة بقوله‏:‏ ‏{‏قليلاً *‏}‏ أي من الزمان والإمهال إلى موتهم أو الإيقاع بهم قبله، وكان بين نزول هذه الآية وبين وقعة بدر يسير- قاله المحب الطبري، وفيه بشارة له صلى الله عليه وسلم بالبقاء بعد أخذهم كما كان، وأنه ليس محتاجاً في أمرهم إلى غير وكلهم سبحانه وتعالى بإلقائهم عن باله صلى الله عليه وسلم وتفريغ ظاهره وباطنه لما هو مأمور به من الله سبحانه وتعالى من الإقبال على الله سبحانه، ففي الآية أن من اشتغل بعدوه وكله الله إلى نفسه، فكان ذلك كالمانع من أخذ الله له، فإذا توكل عليه فقد أزال ذلك المانع-‏.‏

ولما كان هذا منادياً بعذابهم، وكان وصفهم بالنعمة مفهماً لأنهم معتادون بالمآكل الطيبة، وكان منع اللذيذ من المآكل لمن اعتاده لا يبلغ في نكاية النفس بحد نكاية البدن إلاّ بعد تقدم إهانة، استأنف قوله بياناً لنوع ما أفهمه التهديد من مطلق العذاب، وأكد لأجل تكذيبهم‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ وأشار إلى شدة غرابته وجلالته وعظمته وخصوصيته وتحقق حضوره بقوله‏:‏ ‏{‏لدينا‏}‏ دون عندنا ولما كان أشد ما على الإنسان منعه مما يريد من الانبساط به بالحركات، قال ذاكراً ما يضاد ما هم فيه من النعمة والعز‏:‏ ‏{‏أنكالاً‏}‏ جمع نكل بالكسر وهو القيد الثقيل الذي لا يفك أبداً إهانة لهم لا خوفاً من فرارهم، جزاء على تقييدهم أنفسهم بالشهوات عن اتباع الداعي وإيساعهم في المشي في فضاء الأهوية‏.‏ ولما كان ذلك- محرقاً للباطن أتبعه حريق الظاهر فقال‏:‏ ‏{‏وجحيماً *‏}‏ أي ناراً حامية جداً شديدة الاتقاد بما كانوا يتقيدون به من تبريد الشراب، والتنعم برقيق اللباس والثياب، وتكلف أنواع الراحة‏.‏

ولما أتم ما يقابل تكذيبهم، أتبعه ما يقابل النعمة فقال‏:‏ ‏{‏وطعاماً ذا غصة‏}‏ أي صاحب انتشاب في الحلق كالضريع والزقوم يشتبك فيه فلا يسوغ‏:‏ لا ينزل ولا يخرج بما كانوا يعانونه من تصفية المآكل والمشارب، وإفراغ الجهد في الظفر بجميع المآرب‏.‏ ولما خص عم فقال‏:‏ ‏{‏وعذاباً أليماً *‏}‏ أي مؤلماً شديد الإيلام لا يدع لهم عذوبة بشيء من الأشياء أصلاً بما كانوا يصفون به أوقاتهم ويكدرون على من يدعوهم إلى ما ينفعهم بالخلاص من قيود المشاهدات والعروج من حضيض الشهوات إلى أوج الباقيات الصالحات‏.‏

ولما ذكر هذا العذاب ذكر ظرفه فقال‏:‏ ‏{‏يوم ترجف‏}‏ أي تضطرب وتتزلزل زلزالاً شديداً ‏{‏الأرض‏}‏ أي كلها ‏{‏والجبال‏}‏ التي هي أشدها‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ فكانت الأرض قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وكانت الجبال‏}‏ أي التي هي مراسي الأرض وأوتادها، وعبر عن شدة الاختلاط والتلاشي بالتوحيد فقال‏:‏ ‏{‏كثيباً‏}‏ أي رملاً مجتمعاً، فعيل بمعنى مفعول، من كثبه- إذا جمعه، ومادة كثب بتركيبها كثب- وكبث تدور على الجمع مع القرب، وتلزمه القلة، فإن حقيقة القرب قلة المسافة زماناً أو مكاناً، والنعومة، من كثبت التراب‏:‏ درسته، وكثب عليه- بمعنى حمل أوكر، معناه قارب أن يخالطه، وكثيب الرمل‏:‏ قطعة تنقاد محدودبة- ناظر إلى القلة من معنى قطعة، وكل ما انصب كذلك أيضاً لأن الانصاب عادة يكون لما قل وأما نعم كثاب بتقديم الثاء وبتأخيرها أيضاً أي كثير فجاءته الكثرة من الصيغة، والكاثبة من الفرس هو أضيق موضع في عرضها، والكثبة من الأرض‏:‏ المطمئنة بين الجبال- لأنها تكون صغيرة غالباً، والكباث كسحاب‏:‏ النضيج من ثمر الأراك، وقيل‏:‏ ما لم ينضج، وقيل‏:‏ حمله إذا كان متفرقاً، فإن أريد النضيج منه فتسميته به لأنه مجتمع، وإن أريد ما لم ينضج فهو من مقاربة النضج، وإن أريد المتفرق فلقرب بعضه من بعض لأن الأراك نفسه صغير الشجر، وكبث اللحم- كفرح‏:‏ بات مغموماً فتغير أو أروح أي جمع على إنائه الذي هو فيه إناء آخر، أو جمع ما هو فيه حتى تضايق فهو من الجمع لهذا، وأما الكنبث كقنفذ والثاء مؤخرة‏:‏ الصلب الشديد، فهو في الغالب من تجمع أجزائه وتداخل بعضها في بعض، وتكبيث السفينة أن تجنح إلى الأرض، هو من الجمع والقرب معاً، وأما كثبت كنانته- بمعنى نكثها، فكان فعل استعمل هنا للإزالة، أي أزال اجتماعها أو بمعنى أنه قربها نم رميه بتسييرها لسرعة التناول‏.‏

ولما كان الكثيب ربما أطلق مجازاً على ما ارتفع وإن لم يكن ناعماً قال‏:‏ ‏{‏مهيلاً *‏}‏ أي رملاً سائلاً رخواً ليناً منثوراً، من هاله إذا نثره، وقال الكلبي‏:‏ هو الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده، ولما ذكر العذاب ووقته وقدمهما ليكون السامع أقبل لما يطلب منه، أتبعهما السبب فيه مشيراً إلى ما به إصلاح أمر الآخرة التي فيها المعاد وإليها المنتهى والمآب، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم‏:‏ ‏{‏إنا أرسلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏إليكم‏}‏ يا أهل مكة شرفاً لكم خاصة، وإلى كل من بلغته الدعوة عامة ‏{‏رسولاً‏}‏ أي جداً هو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمامهم صلى الله عليه وسلم ‏{‏شاهداً عليكم‏}‏ أي بما تصنعون ليؤدي الشهادة عند طلبها منه بما هو الحق يوم ننزع من كل أمة شهيداً وهو يوم القيامة‏.‏

ولما كانت هذه السورة من أول ما نزل والدين ضعيف وأهله في غاية القلة والذلة ليعتبر بهم من آل به أمره إلى أن كان في زمان صار فيه الدين غريباً كغربته إذ ذاك، وكان فرعون أعتى الناس في زمانه وأجبرهم، وأشدهم خداعاً وأمكرهم وكان بنو إسرائيل في غاية الذل له والطواعية لأمره، ومع ذلك فلما أرسل الله إليه موسى عليه السلام الذي ذبح فرعون أبناء بني إسرائيل لأجل أن يكون في جملة من ذبحه لأنه قيل له أنه يولد لبني إسرائيل مولود يكون هلاك القبط على يده أظهره به وأهلكه على قوته وأنجى منه بني إسرائيل على ضعفهم، قال تعالى تنبيهاً لقريش والعرب وغيرهم على أن من كان الله معه لا ينبغي أن يقاوي ولو أنه أضعف الخلق، وتنبيهاً لهم على الاعتبار بحال هذا الطاغية الذي يزيد عليهم بالملك وكثرة الجنود والأموال‏:‏ ‏{‏كما أرسلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏إلى فرعون‏}‏ أي ملك مصر ‏{‏رسولاً *‏}‏ ولعله نكره للتنبيه على أنه ليس من قوم فرعون فلا مانع له منه من حميم ولا شفيع يطاع، ليعلم أنه من كانت له قبيلة تحامي عنه أولى بالنصرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ‏(‏16‏)‏ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ‏(‏17‏)‏ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ‏(‏18‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

ولما كان الإرسال سبباً للقبول أو الرد قال‏:‏ ‏{‏فعصى فرعون‏}‏ أي بما له من تعوج الطباع ‏{‏الرسول‏}‏ أي الذي تقدم أنا أرسلناه إليه فصار معهوداً لكم بعد ما أراه من المعجزات البينات والآيات الدامغات- بما أشار إليه مظهر العظمة، ولذلك سبب عن عصيانه قوله‏:‏ ‏{‏فأخذناه‏}‏ أي بما لنا من العظمة، وبين أنه أخذ قهر وغضب بقوله‏:‏ ‏{‏أخذاً وبيلاً *‏}‏ أي ثقيلاً شديداً متعباً مضيقاً رديء العاقبة من قولهم‏:‏ طعام وبيل- إذا كان وخماً لا يستمرأ أي لا ينزل في المري ولا يخف عليه، وذلك بأن أهلكناه ومن معه أجمعين لم ندع منهم أحداً- وسيأتي إن شاء الله تعالى في «ألم نشرح» قاعدة إعادة النكرة والمعرفة‏.‏

ولما علم بهذا أنه سبحانه شديد الأخذ، وأنه لا يغني ذا الجد منه الجد، سبب عن ذلك قوله محذراً لهم الاقتداء بفرعون‏:‏ ‏{‏فكيف تتقون‏}‏ أي توجدون الوقاية التي تقي أنفسكم، ولما كان التنفير من سبب التهديد أهم لأنه أدل على رحمة المحذر وأبعث على اجتنابه، قال مشيراً بأداة الشك إلى أن كفرهم بالله مع ما نصب لهم من الأدلة العقلية المؤيدة بالنقلية ينبغي أن لا يوجد بوجه، وإنما يذكر على سبيل الفرض والتقدير‏:‏ ‏{‏إن كفرتم‏}‏ أي أوقعتم الستر لما غرس في فطركم من أنوار الدلائل القائدة إلى الإيمان فبقيتم على كفركم- على أن العبارة مشيرة إلى أنه عفا عنهم الكفر الماضي فلا يعده عليهم رحمة منه وكرماً ولا يعد عليهم إلا ما أوقعوه بعد مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏يوماً‏}‏ أي هو مثل في الشدة بحيث إنه يقال فيه ‏{‏يجعل‏}‏ لشدة أهواله وزلزاله وأوجاله ‏{‏الولدان‏}‏ أي عند الولادة أو بالقرب منها ‏{‏شيباً‏}‏ جمع أشيب وهو من ابيض شعره، وذلك كناية أن عن كثرة الهموم فيه لأن العادة جارية بأنها إذا تفاقمت أسرعت بالشيب، والمعنى إنكار أن يقدروا على أن يجعلوا لهم وقاية بغاية جهدهم تقيهم عذاب ذلك اليوم الموصوف بهذا الهول الأعظم، وذلك حين يقول الله‏:‏ «يا آدم قم فابعث بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين» وأسند الجعل إلى اليوم لكونه واقعاً فيه كما جعله المتقي، وإنما المتقي العذاب الواقع فيه‏.‏

ولما كان هذا أمراً عظيماً، صور بعض أهواله زيادة في عظمه فقال‏:‏ ‏{‏السماء‏}‏ أي على عظمها وعلوها وشدة إحكامها‏.‏ ولما كان المراد الجنس الشامل للكل ذكر فقال‏:‏ ‏{‏منفطر‏}‏ أي منشق متزايل من هيبة الرب تزايل المتفرط من السلك، ولو أنث لكان ظاهراً في واحدة من السماوات، وفي اختيار التذكير أيضاً لطيفة أخرى، وهي إفهام الشدة الزائدة في الهول المؤدي إلى انفطاره ما هو في غاية الشدة لأن الذكر في كل شيء أشد من الأنثى، وذلك كله تهويلاً لليوم المذكور ‏{‏به‏}‏ أي بشدة ذلك اليوم وباؤه للآلة، ويجوز كونها بمعنى «فيه» أي يحصل فيه التفطر والتشقق بالغمام ونزول الملائكة وغير ذلك من التساقط والوهي على شدة وثاقتها فما ظنك بغيرها‏.‏

ولما كان هذا عظيماً، استأنف بيان هوانه بالنسبة إلى عظمته سبحانه وتعالى فقال‏:‏ ‏{‏كان‏}‏ أي على كل حال وبكل اعتبار ‏{‏وعده‏}‏ أي وعد الله الذي تقدم ذكره في مظاهر العظمة، فالإضافة للمصدر على الفاعل ‏{‏مفعولاً *‏}‏ أي سهلاً مفروغاً منه في أي شيء كان، فكيف إذا كان بهذا اليوم الذي هو محط الحكمة، أو الضمير لليوم فالإضافة إلى المفعول، إشارة إلى أن الوعد الواقع به وفيه لا بد منه، ومعلوم أنه لا يكون إلا من الله‏.‏

ولما كان ما مضى من هذه السورة من الأحكام والترغيب والترهيب مرشداً إلى معالي الأخلاق منقذاً من كل سوء، قال مستأنفاً مؤكداً تنبيهاً على عظمها وأنها مما ينبغي التنبيه عليه‏:‏ ‏{‏إن هذه‏}‏ أي القطعة المتقدمة من هذه السورة ‏{‏تذكرة‏}‏ أي تذكير عظيم هو أهل لأن يتعظ به المتعظ ويعتبر به المعتبر، ولا سيما ما ذكر فيها بأهل الكفر من أنواع العقاب‏.‏ ولما كان سبحانه قد جعل للإنسان عقلاً يدرك به الحسن والقبيح، واختياراً يتمكن به من اتباع ما يريد فلم يبق له مانع من جهة اختيار الأصلح والأحسن إلا قسر المشيئة التي لا اطلاع له عليها ولا حيلة له فيها، سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فمن شاء‏}‏ أي التذكر للاتعاظ ‏{‏اتخذ‏}‏ أي أخذ بغاية جهده ‏{‏إلى ربه‏}‏ أي خاصة، لا إلى غيره ‏{‏سبيلاً *‏}‏ أي طريقاً يسلبه حظوظه لكونه لا لبس فيه، فيسلك على وفق ما جاءه من التذكرة، وذلك الاعتصام حال السير بالكتاب والسنة على وفق ما اجتمعت عليه الأمة، ومتى زاغ عن ذلك هلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

ولما كان ربما تغالى بعض الناس في العبادة وشق على نفسه، وربما شق على غيره، أشار سبحانه وتعالى إلى الاقتصاد تخفيفاً لما يلحق الإنسان من النصب، مشيراً إلى ما يعمل حالة اتصال الروح بالجسد وهي حالة الحياة، لأن منفعتها التزود من كل خير لما أدناه هول المقابر، فإن الروح في غاية اللطافة، والسجد في غاية الكثافة، لأنها من عالم الأمر، وهو ما يكون الإيجاد فيه بمرة واحدة من غير تدريج وتطوير والجسد من عالم الخلق فهي غريبة فيه تحتاج إلى التأنيس وتأنيسها بكل ما يقربها إلى العالم الروحاني المجرد عن علائق الأجسام، وذلك بصرف القلب كله عن هذه الدنايا والتلبس بالأذكار والصلوات وجميع الأعمال الصالحات، فإن ذلك هو المعين على اتصالها بعالمها العالي العزيز الغالي، وأعون ما يكون على ذلك الحكمة، وهي العدل في الأعمال والاقتصاد في الأقوال والأفعال، فقال مستأنفاً الجواب عن تيسير السبيل وبنائه على الحنيفية السمحة بحيث صار لا مانع منه إلا يد القدرة ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المدبر لأمرك على ما يكون إحساناً إليك ورفقاً بك وبأمتك ‏{‏يعلم أنك تقوم‏}‏ أي في الصلاة كما أمرت به أول السورة‏.‏

ولما كانت كثرة العمل ممدوحة وقلته بخلاف ذلك، استعار للأقل قوله‏:‏ ‏{‏أدنى‏}‏ أي زماناً أقل، والأدنى مشترك بين الأقرب، والأدون للأنزل رتبة لأن كلاًّ منهما يلزم منه قلة المسافة ‏{‏من ثلثي الّيل‏}‏ في بعض الليالي ‏{‏ونصفه وثلثه‏}‏ أي وأدنى من كل منهما في بعض الليالي- هذا على قراءة الجماعة، والمعنى، على قراءة ابن كثير والكوفيين بالنصب تعيين النصف والثلث الداخل تحت الأدنى من الثلثين، وهو على القراءتين مطابق لما وقع التخيير فيه في أول السورة بين قيام النصف بتمامه أو الناقص منه وهو الثلث أو الزائد عليه وهو الثلثان، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع‏.‏

ولما ذكر سبحانه قيامه صلى الله عليه وسلم، أتبعه قيام أتباعه، فقال عاطفاً على الضمير المستكن في تقوم وحسنه الفصل‏:‏ ‏{‏وطائفة‏}‏ أي ويقوم كذلك جماعة فيها أهلية التحلق بإقبالهم عليك وإقبال بعضهم على بعض‏.‏ ولما كانت العادة أن الصاحب ربما أطلق على من مع الإنسان بقوله دون قلبه عدل إلى قوله‏:‏ ‏{‏من الذين معك‏}‏ أي بأقوالهم وأفعالهم، أي على الإسلام، وكأنه اختار هذا دون أن يقول من المسلمين لأنه يفهم أن طائفة لم تقم بهذا القيام فلم يرد أن يسميهم مسلمين، والمعية أعم‏.‏

ولما كان القيام- على هذا التفاوت مع الاجتهاد في السبق في العبادة دالاً على عدم العلم بالمقادير ما هي عليه قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي تقومون هكذا لعدم علمكم بمقادير الساعات على التحرير والحال أن الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحده ‏{‏يقدر‏}‏ أي تقديراً عظيماً هو في غاية التحرير ‏{‏الّيل والنهار‏}‏ فيعلم كل دقيقة منهما على ما هي عليه لأنه خالقهما ولا يوجد شيء منهما إلا به

‏{‏ألا يعلم من خلق‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏‏.‏

ولما علم من هذا المشقة عليهم في قيام الليل على هذا الوجه علماً وعملاً، ترجم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏علم‏}‏ أي الله سبحانه ‏{‏أن لن تحصوه‏}‏ أي تطيقوا التقدير علماً وعملاً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «استقيموا ولن تحصوا» ‏{‏فتاب‏}‏ أي فتسبب عن هذا العلم أنه سبحانه رجع بالنسخ عما كان أوجب ‏{‏عليكم‏}‏ بالترخيص لكم في ترك القيام المقدر أول السورة، أي رفع التبعة عنكم في ترك القيام على ذلك التقدير الذي قدره كما رفع عن التائب، وكأنه سماه توبة وإن لم يكن ثم معصية إشارة إلى أنه من شأنه لثقله أن يجر إلى المعصية‏.‏

ولما رفعه سبب عنه أمرهم بما يسهل عليهم فقال معبراً عن الصلاة بالقراءة لأنها أعظم أركانها إشارة إلى أن التهجد مستحب لا واجب‏:‏ ‏{‏فاقرءوا‏}‏ أي في الصلاة أو غيرها في الليل والنهار ‏{‏ما تيسر‏}‏ أي سهل وهان إلى الغاية عليكم ولان وانقاد لكم ‏{‏من القرآن‏}‏ أي الكتاب الجامع لجميع ما ينفعكم، قال القشيري‏:‏ يقال‏:‏ من خمس آيات إلى ما زاد، ويقال‏:‏ من عشر آيات إلى ما يزيد، قال البغوي‏:‏ قال قيس بن أبي حازم‏:‏ صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما بالبصرة، فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية‏.‏ وقيل‏:‏ إنه أمر بالقراءة مجردة إقامة لها مقام ما كان يجب عليهم من الصلاة بزيادة في التخفيف، ولذلك روى أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه عن عبد لله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» قال المنذري‏:‏ من سورة الملك إلى آخر القرآن ألف آية‏.‏

ولما كان هذا نسخاً لما كان واجباً من قيام الليل أول السورة لعلمه سبحانه بعدم إحصائه، فسر ذلك العلم المجمل بعلم مفصل بياناً لحكمة أخرى للنسخ فقال‏:‏ ‏{‏علم أن‏}‏ أي أنه ‏{‏سيكون‏}‏ يعني بتقدير لا بد لكم منه ‏{‏منكم مرضى‏}‏ جمع مريض، وهذه السورة من أول ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم، ففي هذه بشارة بأن أهل الإسلام يكثرون جداً‏.‏

ولما ذكر عذر المريض وبدأ به لكونه أعم ولا قدرة للمريض على دفعه، أتبعه السفر للتجارة لأنه يليه في العموم، فقال مبشراً مع كثرة أهل الإسلام باتساع الأرض لهم‏:‏ ‏{‏وآخرون‏}‏ أي غير المرضى ‏{‏يضربون‏}‏ أي يوقعون الضرب ‏{‏في الأرض‏}‏ أي يسافرون لأن الماشي بجد واجتهاد يضرب الأرض برجله، ثم استأنف بيان علة الضرب بقوله‏:‏ ‏{‏يبتغون‏}‏ أي يطلبون طلباً شديداً، وأشار إلى سعة ما عند الله بكونه فوق أمانيهم فقال‏:‏ ‏{‏من فضل الله‏}‏ أي بعض ما أوجده الملك الأعظم لعباده ولا حاجة به إليه بوجه من الربح في التجارة أو تعلم العلم ‏{‏وآخرون‏}‏ أي منكم أيها المسلمون ‏{‏يقاتلون‏}‏ أي يطلبون ويوقعون قتل أعداء الله، ولذلك بينه بقوله‏:‏ ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي ذلك القتل مظروف لطريق الملك الأعظم ليزول عن سلوكه المانع لقتل قطاع الطريق المعنوي والحسي، وأظهر ولم يضمر تعظيماً للجهاد ولئلا يلبس بالعود إلى المتجر، وهو ندب لنا من الله إلى رحمة العباد والنظر في أعذارهم، فمن لا يرحم لا يرحم، قال البغوي‏:‏ روى إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ أيما رجل جلب شيئاً من مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء، ثم قرأ عبد الله ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض يبتغون‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ الآية‏.‏

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله‏.‏

ولما كانت هذه أعذاراً أخرى مقتضية للترخيص أو أسباباً لعدم الإحصاء، رتب عليها الحكم السابق، فقال مؤكداً للقراءة بياناً لمزيد عظمتها‏:‏ ‏{‏فاقرءوا‏}‏ أي كل واحد منكم ‏{‏ما تيسر‏}‏ أي لكم ‏{‏منه‏}‏ أي القرآن، أضمره إعلاماً بأنه عين السابق، فصار الواجب قيام شيء من الليل على وجه التيسير، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس‏.‏ ولما كان صالحاً لأن يراد به الصلاة لكونه أعظم أركانها وأن يراد به نفسه من غير صلاة زيادة في التخفيف، قال ترجيحاً لإرادة هذا الثاني أو تنصيصاً على إرادة الأول‏:‏ ‏{‏وأقيموا‏}‏ أي أوجدوا إقامة ‏{‏الصلاة‏}‏ المكتوبة بجميع الأمور التي تقوم بها من أركانها وشروطها ومقدماتها ومتمماتها وهيئاتها ومحسناتها ومكملاتها‏.‏

ولما ذكر بصفة الخالق التي هي أحد عمودي الإسلام البدني والمالي، أتبعها العمود الآخر وهو الوصلة بين الخلائق فقال‏:‏ ‏{‏وآتوا‏}‏ من طيب أموالكم التي أنعمنا به عليكم ‏{‏الزكاة‏}‏ أي المفروضة، ولما كان المراد الواجب المعروف، أتبعه سائر الإنفاقات المفروضة والمندوبة، فقال‏:‏ ‏{‏وأقرضوا الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال التي منها الغنى المطلق، من أبدانكم وأموالكم في أوقات صحتكم ويساركم ‏{‏قرضاً حسناً‏}‏ من نوافل الخيرات كلها في جميع شرعه برغبة تامة وعلى هيئة جميلة في ابتدائه وانتهائه وجميع أحواله، فإنه محفوظ لكم عنده مبارك فيه ليرده عليكم مضاعفاً أحوج ما تكونون إليه‏.‏

ولما كان هذا الدين جامعاً، وكان هذا القرآن حكيماً لأن منزله له صفات الكمال فأمر في هذه الجمل بأمهات الأعمال اهتماماً بها، أتبع ذلك أمراً عاماً بجميع شرائع الدين فقال‏:‏ ‏{‏وما تقدموا‏}‏ وحث على إخلاص النية بقوله‏:‏ ‏{‏لأنفسكم‏}‏ أي خاصة سلفاً لأجل ما بعد الموت لا تقدرون على الأعمال ‏{‏من خير‏}‏ أي أيّ خير كان من عبادات البدن والمال ‏{‏تجدوه‏}‏ محفوظاً لكم ‏{‏عند الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏هو‏}‏ أي لا غيره ‏{‏خيراً‏}‏ أي لكم، وجاز وقوعه الفصل بين غير معرفتين لأن «أفعل من» كالمعرفة، ولذلك يمنع دخول أداة التعريف عليها‏.‏

ولما كان كل من عمل خيراً جوزي عليه سواء كان عند الموت أو في الحياة سواء كان كافراً أو مسلماً مخلصاً أو لا، إن كان مخلصاً كان جزاؤه في الآخرة، وإلا ففي الدنيا، قال‏:‏ ‏{‏وأعظم أجراً‏}‏ أي مما لمن أوصى في مرض الموت، وكان بحيث يجازى به في الدنيا‏.‏

ولما كان الإنسان إذا عمل ما يمدح عليه ولا سيما إذا كان المادح له ربه ربما أدركه الإعجاب، بين له أنه لا يقدر بوجه على أن يقدر الله حق قدره، فلا يزال مقصراً فلا يسعه إلا العفو بل الغفر فقال حاثاً على أن يكون ختام الأعمال بالاستغفار والاعتراف بالتقصير في خدمة المتكبر الجبار مشيراً إلى حالة انفصال روحه عن بدنه وأن صلاحها الراحة من كل شر‏:‏ ‏{‏واستغفروا الله‏}‏ أي اطلبوا وأوجدوا ستر الملك الأعظم الذي لا تحيطون بمعرفته فكيف بأداء حق خدمته لتقصيركم عيناً وأثراً بفعل ما يرضيه واجتناب ما يسخطه‏.‏

ولما علم من السياق ومن التعبير بالاسم الأعظم أنه سبحانه بالغ في العظمة إلى حد يؤيس من إجابته، علل الأمر بقوله مؤكداً تقريباً لما يستبعده من يستحضر عظمته سبحانه وشدة انتقامه وقوة بطشه‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ وأظهر إعلاماً بأن صفاته لا تقصر آثارها على المستغفرين ولا على مطلق السائلين ‏{‏غفور‏}‏ أي بالغ الستر لأعيان الذنوب وآثارها حتى لا يكون عليها عتاب ولا عقاب ‏{‏رحيم *‏}‏ أي بالغ الإكرام بعد الستر إفضالاً وإحساناً وتشريفاً وامتناناً، وقد اشتملت هذه السورة على شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوتي من جوامع الكلم «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح في دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها منقلبي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر» كما أشير إلى كل جملة منها في محلها، ولقد رجع آخر السورة- بالترغيب في العمل وذكر جزائه- على أولها الأمر بالقيام بين يديه وبإشارة الاستغفار إلى عظم المقام وإن جل العمل ودام وإن كان بالقيام في ظلام الليالي والناس نيام، فسبحانه من له هذا الكلام المعجز لسائر الأنام لإحاطته بالجلال والإكرام، فسبحانه من إله جابر القلوب المنكسرة‏.‏

سورة المدثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏(‏1‏)‏ قُمْ فَأَنْذِرْ ‏(‏2‏)‏ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ‏(‏3‏)‏ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ‏(‏4‏)‏ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ‏(‏5‏)‏ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ‏(‏6‏)‏ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ‏(‏8‏)‏ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ‏(‏9‏)‏ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

ولما ختمت «المزمل» بالبشارة لأرباب البصارة بعدما بدئت بالاجتهاد في الخدمة المهيئ للقيام بأعباء الدعوة، افتتحت هذه بمحط حكمة الرسالة وهي النذارة لأصحاب الخسارة، فقال معبراً بما فيه بشارة بالسعة في المال والرجال والصلاح وحسن الحال في الحال والمآل، ومعرفاً بأن المخاطب في غاية اليقظة بالقلب وإن ستر القالب‏:‏ ‏{‏يا أيها المدثر *‏}‏ المشتمل بثوبه، من تدثر بالثوب‏:‏ اشتمل به، والدثار- بالكسر ما فوق الشعار من الثياب، والشعار ما لاصق البدن «الأنصار شعار والناس دثار» والدثر‏:‏ المار الكثير، ودثر الشجر‏:‏ أورق، وتدثير الطائر‏:‏ إصلاحه عشه، والتعبير بالأداة الصالحة للقرب والبعد يراد به غاية القرب بما عليه السياق وإن كان التعبير بالأداة فيه نوع ستر لذلك مناسبة للتدثر، واختير التعبير بها لأنه لا يقال بعدها إلى ما جل وعظم من الأمور، وكان الدثار لم يعم بدنه الشريف بما دل عليه التعبير بالإدغام دون الإظهار الدال على المبالغة لأن المراد إنما كان ستر العين ليجتمع القلب، فيكفي في ذلك ستر الرأس وما قاربه من البدن، والإدغام شديد المناسبة للدثار‏.‏

ولما كان في حال تدثره قد لزم موضعاً واحداً فلزم من ذلك إخفاء نفسه الشريفة، أمره صلى الله عليه وسلم بالقيام، وسبب عنه الإنذار إشارة إلى أن ما يراد به من أنه يكون أشهر الخلق بالرسالة العامة مقتض لتشمير الذيل والحمل على النفس بغاية الجد والاجتهاد اللازم عنه كثرة الانتشار، فهو مناف للتدثر بكل اعتبار فقال‏:‏ ‏{‏قم‏}‏ أي مطلق قيام، ولا سيما من محل تدثرك بغاية العزم والجد‏.‏

ولما كان الأمر عند نزول هذه السورة في أوله والناس قد عمهم الفساد، ذكر أحد وصفي الرسالة إيذاناً بشدة الحاجة إليه فقال مسبباً عن قيامه‏:‏ ‏{‏فأنذر‏}‏ أي فافعل الإنذار لكل من يمكن إنذاره فأنذر من كان راقداً في غفلاته، متدثراً بأثواب سكراته، لاهياً عما أمامه من أهوال يوم القيامة، وكذا من كان مستيقظاً ولكنه متدثر بأثواب تشويفاته وأغشيته فتراته، فإنه يجب على كل مربوب أن يشكر ربه وإلا عاقبه بعناده له أو غفلته عنه بما أقله الإعراض عنه، وحذف المفعول إشارة إلى عموم الإنذار لكل من يمكن منه المخالفة عقلاً وهم جميع الخلق، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان نزل عليه جبريل عليه السلام ب ‏{‏اقرأ باسم ربك‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ ونحوها فكان بذلك نبياً ثم نزلت عليه هذه الآية فكان بها رسولاً، وذلك أنه نودي وهو في جبل حراء، فلما سمع الصوت نظر يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً، فرفع رأسه فإذا جبريل عليه الصلاة والسلام جالس على عرش بين السماء والأرض، ففرق من ذلك أشد الفرق، فبادر المجيء إلى البيت ترجف بوادره وقال‏:‏

«دثروني دثروني، لقد خشيت على نفسي، صبوا عليّ ماءً بارداً»‏.‏

ولما كان الإنذار يتضمن مواجهة الناس بما يكرهون، وذلك عظيم على الإنسان، وكان المفتر عن اتباع الداعي أحد أمرين‏:‏ تركه مما يؤمر به، وطلبه عليه الأجر، كما أن الموجب لاتباعه عمله بما دعا إليه، وبعده عن أخذ الأجر عليه، أمره بتعظيم من أرسله سبحانه فإنه إذا عظم حق تعظيمه صغر كل شيء دونه، فهان عليه الدعاء وكان له معيناً على القبول فقال‏:‏ ‏{‏وربك‏}‏ أي المربي لك خاصة ‏{‏فكبر *‏}‏ أي وقم فتسبب عن قيامك بغاية الجد والاجتهاد أن تصفه وحده بالكبرياء قولاً واعتقاداً على كل حال، وذلك تنزيهه عن الشرك أول كل شيء، وكذا عن كل ما لا يليق به من وصل وفصل، ومن سؤال غيره، والاشتغال بسواه‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ ملاءمتها لسورة المزمل واضحة، واستفتاح السورتين من نمط واحد، وما ابتدئت به كل واحدة منهما من جليل خطابه عليه الصلاة والسلام وعظيم تكريمه ‏{‏يا أيها المزمل‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏يا أيها المدثر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1‏]‏ والأمر فيهما بما يخصه ‏{‏قم الّيل إلا قليلاً نصفه‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 2- 3‏]‏ الآي، وفي الآخرى ‏{‏قم فانذر وربك فكبر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 2- 3‏]‏ أتبعت في الأولى بقوله‏:‏ ‏{‏فاصبر على ما يقولون‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 10‏]‏ وفي الثانية بقوله ‏{‏ولربك فاصبر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 7‏]‏ وكل ذلك قصد واحد، واتبع أمره بالصبر في الزمل بتهديد الكفار ووعيدهم ‏{‏وذرني والمكذبين‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏ الآيات، وكذلك في الأخرى ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏ الآيات، فالسورتان واردتان في معرض واحد وقصد متحد- انتهى‏.‏

ولما كان تنزيه العبد عن الأدناس لأجل تنزيه المعبود، قال آمراً بتطهير الظاهر والباطن باستكمال القوة النظرية في تعظيمه سبحانه ليصلح أن يكون من أهل حضرته وهو أول مأمور به من رفض العادات المذمومة‏:‏ ‏{‏وثيابك فطهر *‏}‏ أي وقم فخص ثيابك الحسية بإبعادها عن النجاسات بمجانبة عوائد المتكبرين من تطويلها، وبتطهيرها لتصلح للوقوف في الخدمة بالحضرة القدسية، والمعنوية وهي كل ما اشتمل على العبد من الأخلاق المذمومة والعوائد السقيمة من الفترة عن الخدمة والضجر والاسترسال مع شيء من عوائد النفس، وذلك يهون باستكمال القوة النظرية‏.‏

ولما أمر بمجانبة الذر في الثياب وأراد الحسية والمعنوية، وكان ذلك ظاهراً في الحسية، وجعل ذلك كناية عن تجنب الأقذار كلها لأن من جنب ذلك ملبسه أبعده عن نفسه من باب الأولى، حقق العموم وأكد فقال‏:‏ ‏{‏والرجز‏}‏ أي كل قذر فإنه سبب الدنايا التي هي سبب العذاب، قال في القاموس‏:‏ الرجز بالكسر والضم‏:‏ القذر وعبادة الأوثان والعذاب والشرك‏.‏ ‏{‏فاهجر *‏}‏ أي جانب جهاراً وعبادة، ليحصل لك الثواب كما كنت تجانبها سراً وعادة، فحصل لك الثناء الحسن حتى أن قريشاً إنما تسميك الأمين ولا تناظر لك أحداً منها‏.‏

ولما بدأ بأحد سببي القبول، أتبعه الثاني المبعد عن قاصمة العمل من الإعجاب والرياء والملل فقال‏:‏ ‏{‏ولا تمنن‏}‏ أي على أحد بدعائك له أو بشيء تعطيه له على جهة الهبة أو القرض بأن تقطع لذة من أحسنت إليه بالتثقيل عليه بذكرك على جهة الاستعلاء والاستكثار بما فعلته معه، أو لا تعط شيئاً حال كونك ‏{‏تستكثر *‏}‏ أي تطلب أن تعطي أجراً أو أكثر مما أعطيت- قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وهو من قولهم، منَّ- إذا أعطى، وذلك لأنه الأليق بالمعطي من الخلق أن يستقل ما أعطى، ويشكر الله الذي وفقه له، وبالآخذ أن يستكثر ما أخذ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يفعل شيئاً لعلة أصلاً، بل لله خالصاً، فإنه إذا زال الاستكثار حصل الإخلاص، لأنه لا يتعلق همه بطلب الاستمثال، فكيف بالاستقلال، فيكون العمل في غاية الخلوص لا يقصد به ثواباً أصلاً، ولا يراد لغير وجه الله تعالى، وهذا هو النهاية في الإخلاص‏.‏

ولما كان الإنذار شديداً على النفوس يحصل به من المعالجات ما الموت دونه، لأن ترك المألوفات أصعب شيء على النفوس، وكذا ترك الفوائد، قال أمراً بالتحلي بالعاصم بعد التخلي عن القاصم، معلماً بأن الأذى من المنذرين أمر لا بد منه فيدخل في الطاعة على بصيرة، فاقتضى الحال لذلك أن الإنذار يهون بالغنى عن الفانين والكون مع الباقي وحده، فأشار إلى ذلك بتقديم الإله معبراً عنه بوصف الإحسان ترغيباً فقال‏:‏ ‏{‏ولربك‏}‏ أي المحسن إليك، المربي لك، المدبر لجميع مصالحك وحده ‏{‏فاصبر *‏}‏ أي على مشاق التكاليف أمراً ونهياً وأذى المشركين وشظف العيش وجميع البلايا، فإنه يجزل عطاءك من خير الدارين بحيث لا يحوجك إلى أحد، ويحوج الناس إليك، ويهون عليك حمل المشاق في الدارين ولا سيما أمر يوم البعث، فإن من حمل العمل في الدنيا حمله العمل في الآخرة‏.‏

ولما كان المقام للإنذار، وكان من رد الأوامر تكذيباً كفر، ومن تهاون بها ما أطاع ولا شكر، حذر من الفتور عنها بذكر ما للمكذب بها، فقال مسبباً عن ذلك باعثاً على اكتساب الخيرات من غير كسل ولا توقف، مذكراً بأن الملك التقم القرن وأصغى بجبهته انتظاراً للأمر بالنفخ، مشيراً بالبناء للمفعول إلى هوانه لديه وخفته عليه مؤذناً بأداة التحقق أنه لا بد من وقوعه‏:‏ ‏{‏فإذا نقر‏}‏ أي نفخ وصوّت بشدة وصلابة ونفوذ وإنكاء ‏{‏في الناقور *‏}‏ أي الصور وهو القرن الذي إسرافيل عليه السلام ملتقمه الآن وهو مصغ لانتظار الأمر بالنفخ فيه للقيامة، ويجوز أن يراد الأيام التي يقضي فيها بالذل على الكافرين كيوم بدر والفتح وغيرهما كما جعلت الساعة والقيامة كناية عن الموت، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«من مات فقد قامت قيامته» عبر عنه بالنقر إشارة إلى أنه في شدته كالنقر في الصلب فيكون عنه صوت هائل، وأصل النقر القرع الذي هو سبب الصوت فهو أشد من صدعك لهم بالإنذار للحذار من دار البوار، فهنالك ترد الأرواح إلى أجسادها، فيبعث الناس فيقومون من قبورهم كنفس واحدة، وترى عاقبة الصبر، ويرى أعداؤك عاقبة الكبر، والتعبير فيه بصيغة المبالغة وجعله فاعلاً كالجاسوس إشارة إلى زيادة العظمة حتى كأنه هو الفاعل على هيئة هي في غاية الشدة والقوة، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم من النفخ في الصور وقربه فقالوا‏:‏ «كيف نقول يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل» ويجوز أن يكون التسبب عن الأمر بالصبر، أي اصبر فلنأخذن بثأرك في ذلك اليوم بما يقر عينك، فيكون تسلية له صلى الله عليه وسلم وتهديداً لهم‏.‏

ولما ذكر هذا الشرط هل ‏(‏‏؟‏‏)‏ الذي صوره بصوره هائلة، أجابه بقوله‏:‏ ‏{‏فذلك‏}‏ أي الوقت الصعب الشديد العظيم الشدة جداً البالغ في ذلك مبلغاً يشار إليه إشارة ما هو أبعد بعيد، وهو وقت النقر، ثم أبدل من هذا المبتدأ زيادة في تهويله قوله‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ أي وقت إذ يكون النقر الهائل ‏{‏يوم عسير *‏}‏ أي بالغ العسر ‏{‏على الكافرين‏}‏ أي الذين كانوا يستهينون بالإنذار ويعرضون عنه لأنهم راسحون في الكفر الذي هو ستر ما يجب إظهاره من دلائل الوحدانية، ولما كان العسر قد يطلق على الشيء وفيه يسر من بعض الجهات أو يعالج فيرجع يسيراً، بين أنه ليس كذلك بقوله‏:‏ ‏{‏غير يسير *‏}‏ فجمع فيه بين إثبات الشيء ونفي ضده تحقيقاً لأمره ودفعاً للمجاز عنه وتأييداً لكونه ولأنه غير منقطع بوجه، وتقييده بالكافرين يشعر بتيسره على المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏

‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ‏(‏12‏)‏ وَبَنِينَ شُهُودًا ‏(‏13‏)‏ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ‏(‏15‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ‏(‏16‏)‏ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

ولما آذن هذا بأن أكثر الخلق يوافى يوم القيامة على كفره وخبث طويته وسوء أمره وكان ذلك مما يهم لشفقته صلى الله عليه وسلم على الخلق، ولما يعلم من نصبهم للعداوة، هون أمرهم عليه وحقر شأنهم لديه بوعده بالكفاية بقوله مستأنفاً منبهاً على أسباب الهلاك التي أعظمها الغرور وهو شبهة زوجتها شهوة‏:‏ ‏{‏ذرني‏}‏ أي أتركني على أي حالة اتفقت ‏{‏ومن‏}‏ أي مع كل من ‏{‏خلقت‏}‏ أي أوجدت من العدم وأنشأت في أطوار الخلقة، حال كونه ‏{‏وحيداً *‏}‏ لا مال له ولا ولد ولا شيء، وحال كوني أنا واحداً شديد الثبات في صفة الوحدانية لم يشاركني في صنعه أحد فلم يشكر هذه النعمة بل كفرها بالشرك بالله سبحانه القادر على إعدامه بعد إيجاده‏.‏

ولما كان المطغى للإنسان المكنة التي قطب دائرتها المال قال‏:‏ ‏{‏وجعلت له‏}‏ أي بأسباب أوجدتها أنا وحدي لا حول منه ولا قوة بدليل أن غيره أقوى منه بدناً وقلباً وأوسع فكراً وعقلاً وهو دونه في ذلك ‏{‏مالاً ممدوداً *‏}‏ أي مبسوطاً واسعاً نامياً كثيراً جداً عاماً لجميع أوقات وجوده، والمراد به كما يأتي الوليد بن المغيرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان له بين مكة والطائف إبل وحجور ونعم وجنان وعبيد وجوار‏.‏

ولما كان أول ما يمتد إليه النفس بعد كثرة المال الولد، وكان أحب الولد الذكر، قال‏:‏ ‏{‏وبنين‏}‏ ولما كان الاحتياج إلى فراقهم ولو زمناً يسيراً شاقاً، وكان ألزمهم له وأغناهم عن الضرب في الأرض نعمة أخرى قال‏:‏ ‏{‏شهوداً *‏}‏ أي حضوراً معه لغناه عن الأسفار بكثرة المال وانتشار الخدم وقوة الأعوان، وهم مع حضورهم في الذروة من الحضور بتمام العقل وقوة الحذق، فهم في غاية المعرفة بما يزيدهم الاطلاع عليه حيثما أرادهم وجدهم وتمتع بلقياهم، ومع ذلك فهم أعيان المجالس وصدور المحافل كأنه لا شاهد بها غيرهم، منهم خالد الذي من الله بإسلامه، فكان سيف الله تعالى وسيف رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما كان هذا كناية عن سعة الرزق وعظم الجاه، وكان من بسط له في المال والولد والجاه تتوق نفسه إلى إتمام ذلك بالحفظ والتيسير، قال مستعطفاً لما كان هكذا بالتذكير بنعمه‏:‏ ‏{‏ومهدت‏}‏ أي بالتدريج والمبالغة ‏{‏له‏}‏ أي وطأت وبسطت وهيأت في الرئاسة بأن جمعت له إلى ملك الأعيان ملك المعاني التي منها القلوب، وأطلت عمره، وأزلت عنه موانع الرغد في العيش، ووفرت أسباب الوجاهة له حتى دان لذلك الناس، وأقام ببلده مطمئناً يرجع إلى رأيه الأكابر، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ وسعت له ما بين اليمن إلى الشام فأكملت له من سعادة الدنيا ما أوجب التفرد في زمانه من أهل بيته وفخذه بحيث كان يسمى الوحيد وريحانة قريش فلم يزع هذه النعمة العظيمة‏:‏ وأكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏تمهيداً *‏}‏‏.‏

ولما كان قد فعل به ذلك سبحانه، فأورثته هذه النعمة من البطر والاستكبار على من خوله فيها ضد ما كان ينبغي له من الشكر والازدجار، قال محققاً أنه سبحانه هو الذي وهبها له وهو الواحد القهار، مشيراً بأداة التراخي إلى استبعاد الزيادة له على حالته هذه من عدم الشكر‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد الأمر العظيم الذي ارتكبه من تكذيب رسولنا صلى الله عليه وسلم ‏{‏يطمع‏}‏ أي بغير سبب يدلي به إلينا مما جعلناه سبب المزيد من الشكر‏:‏ ‏{‏أن أزيد *‏}‏ أي فيما آتيته من دنياه أو آخرته وهو يكذب رسولي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ إنه ليطمع في ذلك لأن المال والجاه يجران الشرف والعظمة بأيسر سعي، هذا هو المعروف المتداول المألوف، استأنف زجره عن ذلك بمجامع الزجر‏:‏ علماً من أعلام النبوة، وبرهاناً قاطعاً على صحة الرسالة، فقال ما لا يصح أن يقوله غيره سبحانه لأنه مع أنه لا تردد فيه ولا افتراء طابق الواقع، فلم يزد بعد ذلك شيئاً، بل لم يزل في نقصان حتى هلك وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدل لكلماته ‏{‏كلا‏}‏ أي وعزتنا وجلالنا لا تكون له زيادة على ذلك أصلاً، وأما النقصان فسيرى إن استمر على تكذيبه فليرتدع عن هذا الطمع، وليزدجر وليرتجع، فإنه حمق محض وزخرف بحت، وغرور صرف، ولما ردعه هذا الردع المقتضي ولا بد للإذعان وصادق الإيمان ممن لم يستول عليه الحرمان، علله بقوله مؤكداً لإنكارهم العناد والمعاد‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي هذا الموصوف ‏{‏كان‏}‏ بخلق كأنه جبلة له وطبع لا يقدر على الانفكاك عنه ‏{‏لآياتنا‏}‏ على ما لها من العظمة خاصة لكونها هادية إلى الوحدانية، لا لغيرها من الشبه القائدة إلى الشرك ‏{‏عنيداً *‏}‏ أي بالغ العناد على وجه لا يعد عناده لغيرها بسبب مزيد قبحه عناداً، والعناد- كما قال الملوي‏:‏ من كبر في النفس أو يبس في الطبع أو شراسة في الأخلاق أو خبل في العقل، وقد جمع ذلك كله إبليس، لأنه خلق من نار‏.‏ وهي من طبعها اليبوسة وعدم الطواعية، وحقيقته ميل عن الجادة، ومجاوزة للحد مع الإصرار واللزوم، ومنه مخالفة الحق مع المعرفة بأنه حق‏.‏

ولما كان هذا محراً للتشوف إلى بيان هذا الردع، وكان العناد غلظة في الطبع وشكاسة في الخلق يوجب النكد والمشقة جعل جزاءه من جنسه فقال‏:‏ ‏{‏سأرهقه‏}‏ أي ألحقه بعنف وغلظة وقهر إلحاقاً يغشاه ويحيط به بوعيد لا خلف فيه ‏{‏صعوداً *‏}‏ أي شيئاً من الدواهي والأنكاد كأنه عقبة، فإن الصعود لغة العقبة شاق المصعد جداً، وروى الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي، وفي رواية‏:‏ أنه كلما وضع يده في معالجة الصعود ذابت، فإذا رفعها عادت وكذا رجله، وقال الكلبي‏:‏ إنه صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها بجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد فيصعدها في أربعين عاماً، فإذا بلغ ذروتها أسقط إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها، فذلك دأبه أبداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 25‏]‏

‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ‏(‏18‏)‏ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ نَظَرَ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

ولما حصل التشوف إلى بعض ما عاند به الآيات، قال مبيناً لذلك مؤكداً لاستبعاد العقلاء لما صنع لبعده عن الصواب ومعرفة كل ذي لب أنه كذب‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي هذا العنيد ‏{‏فكر‏}‏ أي ردد فكره وأداره تابعاً لهواه لأجل الوقوع على شيء يطعن به في القرآن ‏{‏وقدر*‏}‏ أي أوقع تقديراً للأمور التي يطعن بها فيه وقايتها في نفسه ليعلم أيها أقرب إلى القبول‏.‏ ولما كان تفكيره وتقديره قد أوقع غيره في الهلاك بمنعه من حياة الإيمان أصيب هو بما منعه من حياة نافعة في الدارين، وذلك هو الهلاك الدائم‏.‏ ولما كان الضار إنما هو الهلاك لا كونه من معين، سبب عن ذلك بانياً للمفعول قوله مخبراً وداعياً دعاءً مجاباً لا يمكن تخلفه‏:‏ ‏{‏فقتل‏}‏ أي هلك ولعن وطرد في دنياه هذه‏.‏ ولما كان التقدير غاية التفكير، وكان التفكير ينبغي أن يهديه إلى الصواب فقاده إلى الغي، عجب منه فقال منكراً عليه معبراً بأداة الاستفهام إشارة إلى أنه مما يتعجب منه ويسأل عنه‏:‏ ‏{‏كيف قدر *‏}‏ أي على أي كيفية أوقع تقديره هذا، وإذا أنكر مطلق الكيفية لكونها لا تكاد لبطلانها تتحقق، كان إنكار الكيف أحق‏.‏

ولما كان وقوعه في هذا الطعن عظيماً جداً لما فيه من الكذب المفضوح ومن معاندة من هو القوي المتين المنتقم القهار العظيم ومن غير ذلك من الوجوه المبعدة عن الوقوع فيه، أكد المعنى زجراً عن مثله وحثاً على التوبة منه، فقال معبراً بأداة البعد دلالة على عظمة هذا القتل بالتعبير بها وبالتكرار‏:‏ ‏{‏ثم قتل‏}‏ أي هلك ولعن هذا العنيد هلاكاً ولعناً هو في غاية العظمة فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة ‏{‏كيف قدر *‏}‏ ولما كان الماهر بالنظر إذا فكر وصحح فكره نظر في لوازمه قال مشيراً إلى طول ترويه‏:‏ ‏{‏ثم نظر *‏}‏ أي فيما يدفع به أمر القرآن مرة بعد أخرى، وفي ذلك إشارة إلى قبح أفعاله، فظهور الحق له مع إصراره فإن تكرار النظر في الحق لا يزيده على كل حال إلا ظهوراً وفي الباطل لا يزيده إلا ضعفاً وفتوراً‏.‏

ولما كان من فعل كذلك فظهر له فساد رأيه ووقف مع حظ نفسه يصير يعبس ويفعل أشياء تتغير لها خلقته من غير اختياره قال‏:‏ ‏{‏ثم عبس‏}‏ أي قطب وجهه وكلح فتربد وجهه مع تقبض جلده ما بين العينين بكراهة شديدة كالمتهم المتفكر في شيء وهو لا يجد فيه فرجاً لأنه ضاقت عليه الحيل لكونه لم يجد فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مطعناً ‏{‏وبسر *‏}‏ اتباع لعبس تأكيداً لها، وربما أفهمت أنه سبر ما قاله ووزنه بميزان الفكر وتتبعه تتبعاً مفرطاً حتى رسخت فيه قدمه، كذا قالوا إنها اتباع إن أريد به التأكيد وإلا فقد وردت مفردة، قال في القاموس‏:‏ بسر- إذا عبس، وبسر الحاجة‏:‏ طلبها في غير أوانها، وبسر الدين‏:‏ تقاضاه قبل محله، فكأنه لما طال عليه التفكير صار يستعجل حصوله إلى مراده، ويقال‏:‏ بسر- إذا ابتدأ الشيء، فكأنه لما عبس خطر له السحر فابتدأ في إبداء ما سنح له من أمره، قال ابن برجان‏:‏ البسور هيئة في الوجه تدل على تحزن في القلب‏.‏

ولما كان هذا النظر على هذا الوجه أمدح شيء للمنظور فيه إذا لم يوصل منه إلى طعن، وكان ظاهره إنه لتطلب الحق، فكان الإصرار معه على الباطل في غاية البعد، قال دالاً على ذلك من المدح وعدم وجدان الطعن معبراً بأداة البعد‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد هذا التروي العظيم ‏{‏أدبر‏}‏ أي عما أداه إليه فكره من الإيمان بسلامة المنظور فيه وعلوه عن المطاعن، فحاد عن وجوه الأفكار إلى أقفائها ‏{‏واستكبر *‏}‏ أي وأوجد الكبر عن الاعتراف بالحق إيجاد من هو في غاية الرغبة فيه، وكان هذا غاية العناد، فكان معنى العنيد ‏{‏فقال‏}‏ أي عقب ما جره إليه طبعه الخبيث من إيقاع الكبر على هذا الوجه لكونه رآه نافعاً لهم في الدنيا ولم يفكر في عاقبة ذلك من جهة الله، وأنه سبحانه لا يهدي كيد الخائنين ولا ينجح مراد الكاذبين، ونحو هذا مما جربوه في دنياهم فكيف رقى نظره إلى أمر الآخرة، وأكد الكلام لما يعلم من إنكار من يسمعه فقال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏هذا‏}‏ أي الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إلا سحر‏}‏ أي أمور تخييلية لا حقائق لها، وهي لدقتها بحيث تخفى أسبابها‏.‏

ولما كان من المعلوم لهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما سحر قط ولا تعلم سحراً، فكان من ادعى ذلك علم كذبه بأدنى نظر بعد الأمر بقدر استطاعته فقال‏:‏ ‏{‏يؤثر *‏}‏ أي من شأنه أن ينقله السامع له من غيره، فهو لقوة سحريته وإفراطها في بابها يفرق بمجرد الرواية بين المرء وزوجه وبين المرء وأبيه وابنه إلى غير ذلك من العجائب التي تنشأ عنه‏.‏ ولما كان السامع يجوز أن يكون مأثوراً عن الله فيوجب له ذلك الرغبة فيه، قال من غير عاطف كالمبين للأول والمؤكد له، وساقه على وجه التأكيد بالحصر لعلمه أن كل ذي بصيرة ينكر كلامه‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏هذا‏}‏ أي القرآن ‏{‏إلا قول البشر *‏}‏ أي ليس فيه شيء عن الله فلا يغتر أحد به ولا يعرج عليه، وقد مدحه بهذا الذم بعد هذا التفكير كله من حيث إنه أثبت أنه معجوز عنه لأغلب الناس كما يعجزون عن السحر فسكت ألفاً ونطق خلفاً، فكان شبيهاً من بعض الوجوه بما قاله بعضهم‏:‏

لو قيل «كم خمس وخمس» لاغتدى *** يوماً وليلته يعد ويحسب

ويقول معضلة عجيب أمرها *** ولئن عجبت لها الأمري أعجب

حتى إذا خدرت يداه وعورت *** عيناه مما قد يخط ويكتب

أوفى على شرف وقال ألا انظروا *** ويكاد من فرح يجن ويسلب

خمس وخمس ستة أو سبعة *** قولان قالهما الخليل وثعلب

وهكذا كل حق يجد المبالغ في ذمه لا ينفك ذمه عن إفهام مدح له ينقض كلامه، ولكن أين النقاد المعدود من الأفراد بين العباد، وهذا الكلام صالح لعموم كل من خلقه سبحانه هكذا في الروغان من الحق لما تفضل الله به عليه من الرئاسة لأن أهل العظمة في الدنيا هم في الغالب القائمون في رد الحق والتعاظم على أهله كما ذكر هنا ولا ينافي ذلك ما قالوه‏:‏ إنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، بل ذلك من إعجاز كلام الله تعالى أن تنزل الآية في شخص فتبين حاله غاية البيان ويعم غيره ذلك البيان، قالوا‏:‏ كان للوليد هذا عشرة من البنين، كل واحد منهم كبير قبيلة، ولهم عبيد يسافرون في تجاراتهم ويعملون احتياجاتهم، ولا يحوجونهم إلى الخروج من البلد لتجارة ولا غيرها، وأسلم منهم ثلاثة‏:‏ الوليد بن الوليد وخالد وهشام، وقيل‏:‏ إنه لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أول سورة غافر إلى قوله‏:‏ ‏{‏المصير‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 3‏]‏ أو أول «فصلت» قرأها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد يسمعه، فأعاد القراءة فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، والله لقد سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمعذق، وإنه ليعلو ولا يعلى، ثم انصرف فقالت قريش‏:‏ صبا والله الوليد، والله لتصبون قريش كلها، وكان يقال للوليد ريحانة قريش، فقال ابن أخيه أبو جهل‏:‏ أنا أكفيكموه، فقعد إلى جنب الوليد حزيناً، فقال الوليد‏:‏ ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي‏؟‏ قال‏:‏ وما يمنعني وهذه قريش تجمع لك نفقة تعينك بها على كبر سنك وتزعم أنك صبوت، لتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم، فغضب الوليد وقال‏:‏ ألم تعلم قريش أني من أكثرها مالاً وولداً، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل‏؟‏ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه وأداروا الرأي فيما يقولونه في القرآن فقالوا له‏:‏ ما تقول في هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ قولوا أسمع لكم، قالوا‏:‏ شعر، قال‏:‏ ليس بشعر، قد علمنا الشعر كله، وفي رواية‏:‏ هل رأيتموه يتعاطى شعراً‏؟‏ قالوا‏:‏ كهانة، قال‏:‏ ليس بكهانة، هل رأيتموه يتكهن‏؟‏ فعدوا أنواع البهت التي رموا بها القرآن فردها، وأقام الدليل على ردها، وقال‏:‏ لا تقولوا شيئاً من ذلك إلا أعلم أنه كذب، قالوا‏:‏ فقل أنت وأقم لنا فيه رأياً نجتمع عليه، قال‏:‏ أقرب ذلك إليه السحر، هو يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وزوجه وعشيرته، فافترقوا على ذلك، وكان قوله هذا سبب هلاكه فكان كما قال بعضهم‏:‏

احفظ لسانك أيها الإنسان *** لا يلدغنك إنه ثعبان

كم في المقابر من قتيل لسانه *** كانت تخاف لقاءة الشجعان

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 30‏]‏

‏{‏سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ‏(‏26‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ‏(‏27‏)‏ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ‏(‏28‏)‏ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ‏(‏29‏)‏ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ولما انقضى بيان عناده فحصل التشوف لتفصيل جزائه في معاده، قال مبيناً لبعض ما أفهمه إرهاقه الصعود‏:‏ ‏{‏سأصليه‏}‏ أي بوعيد لا بد منه عن قرب ‏{‏سقر *‏}‏ أي الدركة النارية التي تفعل في الأدمغة من شدة حموها ما يجل عن الوصف، فأدخله إياها وألوّحه في الشدائد حرها وأذيب دماغه بها، وأسيل ذهنه وكل عصارته بشديد حرها جزاء على تفكيره، هذا الذي قدره وتخيله وصوره بإدارته في طبقات دماغه ليحرق أكباد أولياء الله وأصفيائه‏.‏

ولما أثبت له هذا العذاب عظمه وهوله بقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك‏}‏ أي أعلمك وإن اجتهدت في البحث ‏{‏ما سقر *‏}‏ يعني أن علم هذا خارج عن طوق البشر لا يمكن أن يصل إليه أحد منهم بإعلام الله له لأنه أعظم من أن يطلع عليه بشر‏.‏ ولما أثبت لها هذه العظمة، زادها عظماً ببيان فعلها دون شرح ماهيتها فقال‏:‏ ‏{‏لا تبقى‏}‏ أي سقر هذه لا تترك شيئاً يلقى فيها على حالة البقاء على ما كان عليه ‏{‏ولا تذر *‏}‏ أي تترك على حالة من الحالات ولو كانت أقبح الحالات فضلاً عما دونها، بل هي دائمة الإهلاك لكل ما أذن فيه والتغيير لأحوال ما أذن لها في عذابه، ولم يؤذن في محقه بالكلية، لكل شيء فترة وملال دونها‏.‏

ولما كان تغير حال الإنسان إلى دون ما هو عليه غائطاً له موجعاً إذا كان ذلك تغير لونه لأن الظاهر عنوان الباطن، قال الله تعالى دالاً على شدة فعلها في ذلك‏:‏ ‏{‏لواحة‏}‏ أي شديدة التغيير بالسواد والزرقة واللمع والاضطراب والتعطيش ونحوها من الإفساد من شدة حرها، تقول العرب‏:‏ لاحت النار الشيء- إذا أحرقته وسودته ‏{‏للبشر *‏}‏ أي للناس أو لجلودههم، جمع بشرة وجمع البشر أبشار ‏{‏عليها‏}‏ أي مطلق النار بقرينة ما يأتي من الخزنة ‏{‏تسعة عشر *‏}‏ أي ملكاً، لطبقة المؤمنين وهي العليا ملك واحد، وللست الباقية ثمانية عشر، لكل واحدة ثلاثة، لأن الواحد يؤازر بثان، وهما يعززان بثالث، فلذا والله أعلم كانوا ثلاثة، أو لأن الكفر يكون بالله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكان لكل تكذيب في كل طبقة من طبقاتها الست ملك أو صنف من الملائكة، وعلى الأول في كونهم أشخاصاً بأعيانهم أكثر المفسرين، وقد علم مما مضى أنهم غلاظ شداد كل واحد منهم يكفي لأهله الأرض كلهم كما أن ملكاً واحداً وكل بقبض جميع الأرواح، وجاء في الآثار أن أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيرميهم حيث أراد من جهنم، قال عمرو بن دينار‏:‏ إن واحداً منهم يدفع بالدفعة الواحدة أكثر من ربيعة ومضر‏.‏

وقيل‏:‏ إن هذه العدة لمكافأة ما في الإنسان من القوى التي بها ينتظم قوامه، وهي الحواس الخمس الظاهرة‏:‏ السمع والبصر والشم والذوق واللمس، والخمس الباطنة‏:‏ المتخيلة والواهمة والمفكرة والحافظة والذاكرة، وقوتا الشهوة والغضب، والقوى الطبيعية السبع‏:‏ الماسكة والهاضمة والجاذبة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة، وقيل‏:‏ اختير هذا العدد لأن التسعة نهاية الآحاد، والعشرة بداية العشرات، فصار مجموعهما جامعاً لأكثر القليل وأقل الكثير، فكان أجمع الأعداد، فكان إشارة إلى أن خزنتها أجمع الجموع، ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أن قراءة البسملة تنجي من خزنة النار فإنها تسعة عشر حرفاً، كل حرف منها لملك منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏(‏31‏)‏‏}‏

ولما كان هذا غير مميز للمعدود، وكانت الحكمة في تعيين هذا العد غير ظاهر، وكان هذا العدد مما يستقله المتعنت فيزيده كفراً، قال تعالى مبيناً لذلك‏:‏ ‏{‏وما جعلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة وإن خفي وجه العظمة فيه على من عمي قلبه ‏{‏أصحاب النار‏}‏ أي خزنتها ‏{‏إلا ملائكة‏}‏ أي إنهم ليسوا من جنس المعذبين فيرقوا لهم ويطيق المعذبون محاولتهم أو يستريحوا إليهم وهم أقوى الخلق، وقد تكرر عليكم ذكرهم وعلمتم أوصافهم وأنهم ليسو كالبشر بل الواحد منم يصيح صيحة واحدة فيهلك مدينة كاملة كما وقع لثمود، فكيف إذا كا كل واحد من هؤلاء الخزنة رئيساً تحت يده من الجنود ما لا يحصيه إلا الله تعالى ‏{‏وما جعلنا‏}‏ على ما لنا من العظمة ‏{‏عدتهم‏}‏ أي مذكورة ومحصورة فيما ذكرنا ‏{‏إلا فتنة‏}‏ أي حالة مخالطة مميلة محيلة ‏{‏للذين كفروا‏}‏ أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى الوجوه، فإنهم يستقلونه ويستهزئون به ويتعنتون أنواعاً من التعنت بحيث إن بعض أغبياء قريش وهو أبو جهل، قال‏:‏ ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يقول كذا وأنتم ألدهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي- وكان شديد البطش‏:‏ أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين، وهذا كله على سبيل الاستهزاء، فإنهم مكذبون بالبعث الذي هذا من آثاره، وكان في علم أهل الكتاب أن هذه العدة عدتهم، وأن العرب إذا سمعوا هذه العدة كانت سبباً للشك أكثرهم وموضعاً للتعنت، فلذلك علق بالفتنة أو ب «جعلنا» قوله‏:‏ ‏{‏ليستيقن‏}‏ أي يوجد اليقين إيجاداً تاماً كأنه بغاية الرغبة ‏{‏الذين أوتوا الكتاب‏}‏ بناه للمفعول لأن مطلق الإيتاء كاف في ذلك من غير احتياج إلى تعيين المؤتي مع أنه معروف أنه هو الله، قال البغوي‏:‏ مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر‏.‏ ‏{‏ويزداد الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى الوجوه إلى ما عندهم من الإيمان ‏{‏إيماناً‏}‏ بتصديق ما لم يعلموا وجه حكمته لا سيما مع افتتان غيرهم به وكثرة كلامهم فيه، فإن الإيمان بمثل ذلك يكون أعظم‏.‏

ولما أثبت لكل من الجاهل والعالم ما أثبت، أكده بنفي ضده مبيناً للفتنة فقال‏:‏ ‏{‏ولا يرتاب‏}‏ أي يشك شكاً يحصل بتعمد وتكسب ‏{‏الذين أوتوا الكتاب‏}‏ لما عندهم من العلم المطابق لذلك، قال ابن برجان‏:‏ وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «إن قوماً من أهل الكتاب جاؤوا إليه في قضية- فيها طول، وفيها أنهم سالوه عن خزنة جهنم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا وهكذا، في مرة عشرة وفي مرة تسعة، فقالوا‏:‏ بارك الله فيك يا أبا القاسم، ثم سألهم‏:‏ ما خزنة الجنة‏؟‏ فسكتوا هيبة ثم قالوا‏:‏ خبزة يا أبا القاسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الخبزة من الدرمك»

‏{‏والمؤمنون‏}‏ أي لا يرتاب الذين رسخ الإيمان عندهم لما رأوا من الدلائل التي جعلتهم في مثل ضوء النهار ‏{‏وليقول الذين‏}‏ استقر ‏{‏في قلوبهم مرض‏}‏ أي شك أو نفاق وإن قل، ونزول هذه السورة قبل وجود المنافقين علم من أعلام النبوة، ولا ينكر جعل الله تعالى بعض الأمور علة لمصالح ناس وفساد آخرين، لأنه لا يسأل عما يفعل على أن العلة قد تكون مقصودة لشيء بالقصد الأول، ثم يرتب عليها شيء آخر يكون قصده بالقصد الثاني تقول‏:‏ خرجت من البلد لمخالفة أكثر ومخافة الشر لا يتعلق بها الغرض ‏{‏والكافرون‏}‏ أي ويقول الراسخون في الكفر الجازمون بالتكذيب المجاهرون به الساترون لما دلت عليه الأدلة من الحق ‏{‏ماذا‏}‏ أي أي شيء ‏{‏أراد الله‏}‏ أي الملك الذي له جميع العظمة ‏{‏بهذا‏}‏‏:‏ أي العدد القليل في جنب عظمته ‏{‏مثلاً‏}‏ أي من جهة أنه صار بذلك مستغرباً استغراب المثل، أو أن ذلك إشارة إلى أنه ليس المراد به ظاهره بل مثل لشيء لم يفهموه وفهموا أن بين استجماعه للعظمة وهذا العدد عناداً، وما علموا أن القليل من حيث العدد قد يكون أعظم بقوته من الكثير العدد، ويكون أدل على استجماع العظمة‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ أراد بهذا إضلال من ضل وهو لا يبالي، وهداية من اهتدى وهو لا يبالي، كان كأنه قيل‏:‏ هل يفعل مثل هذا في غير هذا‏؟‏ فقال جواباً‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا المذكور من الإضلال والهداية ‏{‏يضل الله‏}‏ أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز ‏{‏من يشاء‏}‏ بأي كلام شاء ‏{‏ويهدي‏}‏ بقدرته التامة ‏{‏من يشاء‏}‏ بنفس ذلك الكلام أو بغيره، وذلك من حكم جعل الخزنة تسعة عشر والإخبار عنهم بتلك العدة فإن إبراز الأحكام على وجه الغموض من أعظم المهلكات والمسعدات، لأن المنحرف الطباع يبحث عن عللها بحثاً متعنتاً، فإذا عميت عليه قطع ببطلان تلك الأحكام أو شك، وربما أبى الانقياد، وذلك هو سبب كفر إبليس والمستقيم المزاج يبحث مع التسليم فإن ظهر له الأمر ازداد تسليماً وإلا قال‏:‏ آمنت بذلك كل من عند ربنا- فكان في غاية ما يكون من تمام الانقياد لما يعلم سره- رزقنا الله التسليم لأمره وأعاننا على ذكره وشكره‏.‏

ولما كان هذا مما يوهم قلة جنوده تعالى، أتبعه ما يزيل ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنه ما ‏{‏يعلم جنود ربك‏}‏ أي المحسن إليك بأنواع الإحسان المدبر لأمرك بغاية الإتقان من جعل النار وخزنتها وجعلهم على هذه العدة وغير ذلك، فلا تعلم عدتهم لأجل كثرتهم وخروجهم عن طوق المخلوق وما هم عليه من الأوصاف في الأجساد والمعاني ‏{‏إلا هو‏}‏ أي الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال، فلو أراد لجعل الخزنة أكثر من ذلك، فقد روي أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا تعود إليهم نوبة أخرى، وقد ورد أن الأرض في السماء كحلقة ملقاة في فلاة وكل سماء في التي فوقها كذلك، وقد ورد في الخبر‏:‏ أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم يصلي‏.‏

وإنما خص هذا العدد لحكم لا يعلمها إلا هو، ومن أراد إطلاعه على ذلك من عباده مع أن الكفاية تقع بدون ذلك، فقد كان في الملائكة من اقتلع مدائن قوم لوط وهي سبع ورفعها إلى عنان السماء، وكل ما في الإنسان من الجواهر والإعراض من جنود الله لو سلط عليه شيء من نفسه لأهلكه‏:‏ لو تحرك عرق ساكن أو سكن متحرك أو انسد مجوف أو تجوف منسد لهلك‏.‏

ولما ذكر شيئاً من أسرار سوق الأخبار عنها غامضاً، وكان ذلك من رحمة العباد ليفتح لهم باباً إلى التسليم لما يغمض من تذكيرهم بأمر مليكهم لأن العاجز لا يسعه في المشي على قانون الحكمة إلا التسليم للقادر وإلا أهلك نفسه وما ضر غيرها، خص أمرها في التذكير تأكيداً للإعلام تذكيراً بالنعمة لأجل ما لأغلب المخاطبين من اعوجاج الطباع المقتضي للرد والإنكار، المقتضي لسوق الكلام على وجه التأكيد فقال‏:‏ ‏{‏وما هي‏}‏ أي النار التي هي من أعظم جنوده سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إلا ذكرى للبشر‏}‏ أي تذكرة عظيمة لكل من هو ظاهر البشرة فبدنه أقبل شيء للتأثر بها لأجل ما يعرفون منها في دنياهم، وإلا فهو سبحانه وتعالى قادر على إيجاد ما هو أشد منها وأعظم وأكثر إيلاماً مما لا يعلمه الخلائق‏.‏